site meter

search

Google

result

Wednesday, January 27, 2010

قرارات عبدالناصر


زاهر بن حارث المحروقي
كاتب عماني

1

 
في مقال سابق بعنوان (لماذا لم يتدخل الرئيس جمال عبد الناصر؟) في أحداث الانقلاب الذي وقع في زنجبار عام 1964 أشرت في نهاية المقال إلى أن قدر الرئيس جمال عبد الناصر أن يغيب عنه التقييم المنطقي في كل قراراته سواء التي أصاب فيها أو أخطأ، فقليل من الناس من يتكلم عن الرجل وقراراته بموضوعية فإما أن تجد من يكيل له المديح وكأنه من الملائكة لا من البشر أو أن تجد من يصب عليه جام لعناته كأنه من الشياطين لا من البشر، ولقد بقيت كل قراراته حتى الآن بين الشد والجذب إذ يرى البعض أنه أخطأ في تدخله في اليمن وأن مصر دفعت ثمنا غاليا بسبب ذلك التدخل منها هزيمة 67 بينما نجد أن آخرين يرون أن ذلك التدخل وضع حدا للنفوذ الإنجليزي في المنطقة وما تبع ذلك من الإعلان البريطاني عن الانسحاب من منطقة الخليج كنتيجة للضربات التي وجهها عبد الناصر لهم، وما قيل عن اليمن قيل أيضا عن الجزائر ومناصرة جمال عبد الناصر للثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي حيث لا يزال الناس منقسمين حول ذلك، وما حصل مع الثورة الجزائرية حصل مع تأميم قناة السويس وبناء السد العالي الذي بناه جمال عبد الناصر والذي مرت الذكرى الـ50 لبدء العمل فيه في التاسع من الشهر الجاري، ففي الوقت الذي واجه مشروع السد العالي العديد من الانتقادات وصلت إلى حد الافتراء ووصلت إلى حد الدعوة بهدمه، هناك دراسات غربية تشير إلى أن السد أنقذ مصر من الجفاف والمجاعة ربما لأكثر من 12 عاما نظرا لقلة الأمطار في البحيرات العليا في أفريقيا التي هي المنابع الأصلية لنهر النيل مما أدى بالتالي إلى نقص منسوب النهر.
 
أستميح القارئ عذرا بأن مقالي اليوم أطول مما هو معتاد وسأعتمد كثيرا على النقولات أما عن رأيي الشخصي فكما أردد دائما فليس مهما، والمقال ليس مقارنة بين بناء السد العالي وبناء الجدار الفولاذي أبدا
 
" 2 "

يقول صلاح سليمان وهو إعلامي مصري مقيم في ألمانيا في مقال كتبه لجريدة القدس العربي إن وسائل الإعلام الألمانية اهتمت بهذا المشروع العملاق بهذه المناسبة، وفي حديث مع الأستاذ ( أوتو كيرشمار) أستاذ الهندسة الهيدروليكية في الجامعة التقنية في دارمشتادت أشار ألى أن السد العالي في مصر يعتبر واحداً من أكبر 3 سدود في العالم يتحكم في 165 مليار متر مكعب من المياه وهو بكل المقايس واحد من أهم سدود العالم على الإطلاق، وباستطاعة 11,000 متر مكعب من الماء أن تمر من السد في الثانية الواحدة.

لقد أعطى الرئيس جمال عبد الناصر إشارة البدء في بناء السد العالي في 9/1/ 1960 وقد قدرت التكلفة الإجمالية بمليار دولار شطب ثلثها من قبل الاتحاد السوفييتي، وقد عمل فيه 400 خبير روسي إضافة إلى 34 ألف عامل مصري، ويقول الخبير الألماني إن الرئيس جمال عبد الناصر أراد من وراء بناء السد أن يضيف إلى الرقعة الزراعية في مصر أراضي جديدة بـ 25 ضعفا، إضافة إلى رفع نسبة المحاصيل الزراعية ثم حماية مصر من الفيضانات التي كانت تهددها كل عام في فيضان النيل وفي نفس الوقت حمايتها من الجفاف والعمل على توليد الكهرباء، وفي هذا الصدد أشارت التقارير الدولية الهندسية إلى أن السد العالي تفوق على 122 مشروعا عملاقاً في العالم لما حققه من فوائد عادت على الجنس البشري حيث وفر لمصر رصيدها الاستراتيجي من المياه بعد أن كانت مياه النيل في أشهر الفيضانات تذهب سدى في البحر الأبيض عدا 5 مليارات متر مكعب يتم احتجازها.

أما بالنسبة للطاقة الكهربائية فإنه توجد محطة الكهرباء عند مخارج الأنفاق في السد حيث يتفرع كل نفق إلى فرعين مركب علوي وسفلي على كل منهما توربينة لتوليد الكهرباء وعدد التوربينات 12 توربينة قدرة التوربينة منها 175 ألف كيلووات وتصبح القدرة الإجمالية للمحطة 2.1 مليون كيلووات أي أن الطاقة الكهربية المنتجة تصل الى 10 مليار كيلووات ساعة سنويا.

قصة بناء السد العالي كما يقول الخبير الألماني (اوتو كيرشمار) بدأت بمفاوضات مع أمريكا لكن الولايات المتحدة لم تكن لديها الرغبة في مساعدة مصر في بناء السد بالنظر إلى اتصالات جمال عبد الناصر مع الاتحاد السوفييتي سابقا واعترافه بالصين الشعبية مما وجه صفعة لأمريكا والغرب، وفي يوليو 1956 سحب وزير خارجية أمريكا جون فوستر دلاس مشروع بناء السد العالي مما سبب غضبا لجمال عبد الناصر وأوكل بناء المشروع للجانب الروسي وأصبح للسوفييت بمقتضى ذلك قدم في منطقة الشرق الأوسط.

انتقل جمال عبد الناصر إلى رحاب ربه قبل افتتاح السد العالي في 15 يناير 1971 الذي بقي شاهدا على أحد أهم إنجازات الرجل، ورغم محاولات التشكيك والانتقادات التي وجهت إلى السد من ناحية إضعاف خصوبة الأرض الزراعية وإعادة تهجير مئة ألف نوبي في جنوب مصر بعيدا عن موطنهم الأصلي الذي أغرقته مياه بحيرة ناصر فإن السد العالي سيظل هرما كأهرامات مصر الخالدة ولا يمكن بحال التشكيك في مقدرته وأهميته لمصر.

" 3 "

وينقل أحمد السيد النجار في جريدة العربي المصرية عدد الإثنين 18 /1/ 2010 أن من أهم ما صدر عن السد العالي ما أورده اثنان من الخبراء الأمريكيين زارا السد وهما وليم هـ. وايزلي مدير جمعية المهندسين المدنيين بالولايات المتحدة، والبروفسور وليم ل. هيوز رئيس قسم الهندسة الكهربائية بجامعة أوكلاهوما حيث كتبا انطباعاتهما عن زيارتهما للسد العالي، فتحت عنوان (الناس وتأثير البيئة والسد العالي) قال وايزلي إن العديد من المتحفظين والصحفيين أثاروا اعتراضا على بعض الآثار الجانبية للسد العالى ومنها الشك فى امتلاء بحيرة السد العالي بسبب ارتفاع نسبة الفاقد بالبخر والتسرب، ويعلق وليم وايزلي على ذلك بقوله يجب ملاحظة أن الغرض من بحيرة ناصر إنما هو تخزين مياه فيضانات النيل لتكون مصدرا مستمرا وثابتا لري الأراضي الزراعية وتوليد الكهرباء وأن ملء البحيرة حتى الآن يتم كما كان متوقعا، لكن من متابعة ملء البحيرة خلال السنوات الماضية نلاحظ أن معدل الفاقد بالتبخر والتسرب لا يتجاوز الحدود المقررة له في التصميم وأنه حتى الآن لم تظهر أي مناطق ضعيفة تتسرب منها المياه بقاع البحيرة.

ويرد وايزلي على النقطة المثارة حول ترسيب الطمي في البحيرة بصورة تؤثر على السعة التخزينية لها من ناحية وتحرم الأراضي الزراعية في مصر من الطمي الذى كان يزيد من خصوبتها فيعلق على ذلك بقوله إنه من بين الـ60 مليون طن من الطمي التي كانت تحملها مياه النيل كل عام كانت نسبة ما يذهب منها للبحر مع مياه الفيضان تبلغ 88% ونسبة ما يرسب منها على الأراضي 9% بينما يرسب الباقي فى قاع الترع أي أن 5.4 مليون متر مكعب من الطمي هي التي كانت ترسب في الأراضي الزراعية سنويا، وتقدر الخسارة من عدم ترسيب تلك الكمية من الطمي بما يعادل 13 ألف طن من سماد نترات الكالسيوم فى السنة، وتكاليف شراء هذه الكمية من السماد تقل عن تكلفة تطهير الترع من الطمي الذي كان يرسب بها قبل بناء السد، أما بالنسبة لتأثير الطمي المترسب في بحيرة ناصر على سعتها التخزينية فإن تصميم سعة البحيرة يسمح بتخزين 30 مليار متر مكعب من الطمي وهذه السعة تكفي لرسوب الطمي بالمعدلات المعتادة لمدة خمسمائة عام. وأشار وايزلي في النهاية إلى أن السد العالي يعتبر من عجائب الهندسة الحديثة والأهم من ذلك أنه يلبي احتياجات الشعب كما أنه يعد مشاركة رائعة بين المهن الهندسية في كل من مصر والاتحاد السوفييتي وكذا المهندسون من بلاد أخرى شاركوا في وضع تصميمات المشروع في مراحله الأولى وهو بذلك يضمن أحسن ما في الفن الهندسي من إبداع وسلامة التنفيذ، وأنه من الأفضل للذين يقللون من شأن هذا المشروع الكبير أن ينظروا إليه من الناحية الصحيحة وبالتركيز الصحيح.

ومن ناحية أخرى كتب د. وليم هيوز انطباعاته عن زيارة مصر وسدها العالي تحت عنوان (تأملات في أسوان) وقد ورد فيها أن صحافتنا الأمريكية كانت تجنح بصفة عامة إلى وصف مشروع السد العالي بأسوان بعبارات بها روح التعالي أو عبارات تقلل من شأنه، ثم يعدد د.هيوز المزايا الاقتصادية التي حققها مشروع السد العالي لمصر وعلى رأسها زيادة الرقعة الزراعية وتوليد الكهرباء والحماية من الفيضانات، ويؤكد أن المشاكل التي تمخضت عنه يمكن معالجتها وهي لا تقارن بالمزايا التي حققها، ويؤكد أن السد هو أحد العجائب الهندسية في عصرنا الحاضر ويعود على مصر بفائدة اقتصادية هائلة.

" 4 "

لقد جاء بناء السد العالي ردا على الضغوط التي مارستها أمريكا على عبد الناصر بهدف محاصرته وقص أجنحته بعد أن رفضت هي وبريطانيا تمويل بناء السد، وأخذت هذه الضغوط تتطور وتتبلور وتتصاعد للدرجة الذي كان من الممكن أن تؤدي بالفعل إلى خنقه وإذلاله ومعه الشعب المصري حالة خنوعه أو تراجعه في مواجهتها.

ويرى د. جمال شقرة في مقال كتبه في جريدة العربي العدد الأخير أنه تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من التنسيق السياسي السري بين الولايات المتحدة وإنجلترا بخصوص مصر والذي وافق عليه ايزنهاور فإن الولايات المتحدة الأمريكية النجم الصاعد في سماء العلاقات الدولية وقتئذ وحسب توجيه ايزنهاور نفسه احتفظت لنفسها بخطط مستقلة فيما يخص موقفها من عبد الناصر، كان من أهم أركان هذه الخطط ما عبرت عنه الوثائق الأمريكية بالجسور التي يجب أن تترك لعبد الناصر حتى يمكنه أن يعود عليها وحتى لا يرتمي تماما وإلى الأبد في أحضان السوفييت، المهم أن يشعر بعد الضغوط بالندم وبأنه لم يكن موفقا أو محظوظا بالتعامل مع السوفييت، وبالطبع كان الإبطاء والتسويف في تحديد موقف الولايات المتحدة من تمويل مشروع السد العالي أحد أساليب الضغط بل أهمها، إلا أن عبد الناصر في هذه الفترة كانت له خططه وتكتيكاته، بل لديه قرارات مدروسة وجاهزة لتُعلَن في الوقت المناسب وهي قرارات كان من المحتم فور الإعلان عنها والشروع في تنفيذها أن تقلب خطط الغرب رأسا على عقب، كانت أهم الخطط والقرارات التي درسها عبد الناصر وجمدها لحين توفر الظروف المناسبة قرار بضرورة تمصير المصالح الأجنبية، وكان الأهم والأخطر بالطبع هو دراسته لموضوع شركة قناة السويس وانتهاؤه إلى ضرورة تأميمها، فحسب رواية علي صبري وغيرها كان عبدالناصر قد حسم هذا الموضوع قبل سنتين من الإعلان عنه يوم 26/7/ 1956 ، فبعد أن قررت الولايات المتحدة وإنجلترا أن تنتقلا من الضغوط إلى العمل المباشر ضد مصر وذلك بسحب مساهمتها في تمويل السد العالي 19/7/ 1956 وبطريقة مهينة استهدفت إذلال مصر، أعلن عبد الناصر يوم 26 /7/ 1956 قراره التاريخي بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس لتصبح شركة مساهمة مصرية وليحقق بذلك حلما طالما رواد الشعب المصري لسنوات طويلة، ولقد كان هذا القرار التاريخي واحدا من سلسلة من القرارات المهمة التي تحدى بها عبد الناصر الاستعمار إلا أنه كان أخطرها على الإطلاق، ولقد استقبله الشعب المصري وكذا شعوب الأمة العربية بفرحة غامرة حتى إن بعض رموز القوى السياسية الداخلية التي كانت لا تزال تعارض عبد الناصر منذ 1952 أيدت القرار، لقد فجر هذا القرار طاقات هائلة داخل مصر والوطن العربى وعبأ الشعب العربي من المحيط إلى الخليج على نحو غير مسبوق، أما العواصم الغربية فكانت تغلي إثر إصدار هذا القرار الذي قدر له أن يضع العالم كله على حافة أزمة خطيرة، وقد استطاع عبد الناصر أن يدير معركته مع الغرب وهي معركة كانت جزءا من صراع طويل بدأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية على مقادير الشرق الأوسط والعالم العربي، وكان قد توقع أن تكون ردود الفعل في الغرب عنيفة خاصة رد فعل إنجلترا وفرنسا وفعلا شنت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل عدوانا على مصر عرف بالعدوان الثلاثي وانتهز عبد الناصر فرصة هذا العدوان وقام بتمصير المصالح الأجنبية ليدعم الاستقلال السياسي بالاستقلال الاقتصادي، كما قطعت مصر علاقتها الدبلوماسية بإنجلترا وفرنسا في الأول من نوفمبر 1956، ومع بداية العمليات الحربية كانت القوات المصرية بمنطقة القناة قد استولت على القاعدة البريطانية، وفي أوائل يناير 1957 قام عبد الناصر بإلغاء اتفاقية الجلاء، إلا أن عبد الناصر بعد انسحاب قوات العدوان بدأ يستشعر أن معركة السويس لن تكون الأخيرة في صراعه مع الغرب وأن الولايات المتحدة رغم أنها وقفت ضد العدوان وأسهمت بدور كبير في هزيمة إنجلترا وفرنسا إلا أن موقفها من ثورة يوليو لا يختلف كثيرا عن موقف إنجلترا وفرنسا إلا في الوسائل، وكان عبد الناصر قد قام بجس نبض إدارة ايزنهاور بعد العدوان عندما طلبت مصر معونة عاجلة من السلع الغذائية والوقود والأدوية فرفضت الولايات المتحدة كما رفضت أن تلغي قرارها بتجميد أرصدة مصر لديها، وعندما طلبت مصر الإفراج عن 27 مليون دولار من أموالها حتى تستطيع أن تشتري بها قمحا رفض طلب مصر أيضا.

ويقول د. جمال شقرة هكذا استمرت معركة مصر مع الغرب وكان لا بد من جولة جديدة وهو ما سيتم التخطيط له من عام 57 حتى 1967 ليكون العدوان والتآمر في يونيو.



No comments:

Popular Posts

Followers

My Travel Map

تأخير الصلاة