site meter

search

Google

result

Thursday, March 26, 2009

إسرائيل ومستقبل السودان

زاهر بن حارث المحروقي
كاتب عماني
1
إن مثل العرب الآن وهم يشاهدون ما يشبه بداية نهاية السودان كمثل أناس دخلوا إلى المطعم ليتناولوا وجبة غداء أو عشاء ولم يدروا أين وكيف تم إعداد هذه الوجبة الدسمة وكم من الوقت استغرق طهيها ومن الذي شارك في تجهيزها وغير ذلك من الأسئلة ، لأن الوجبة تم طهيها على نار هادئة وعلى مدى سنوات طويلة ، وهو ما حدث بالضبط مع ما ينتظر السودان الآن من تفتيت في الشرق والغرب والجنوب بطبخة إسرائيلية أمريكية غربية هادئة تؤتي أكلها الآن بعد سنوات طويلة من بداية الطبخة وحقيقة الأمر فإن التدخل الإسرائيلي في الجنوب يعود إلى بداية المشكلة هناك وليس تدخلا جديدا كما يبدو ، وقد ظهر ذلك جليا في الوثائق الأمريكية التي أفرجت عنها وزارة الخارجية الأمريكية حيث تشير هذه الوثائق من الوهلة الأولى لقيام التمرد في الجنوب إلى وجود جنود إسرائيليين وأسلحة إسرائيلية في أيدي المتمردين الجنوبيين الذين وصلوا إلى الجنوب عن طريق السفارة الإسرائيلية في كمبالا عاصمة أوغندا وعن طريق مكتب الموساد في أديس أبابا الذي عمل فيه كبار الضباط بهدف اختراق السودان كمرحلة أولى وتطويق مصر في النهاية حتى وصل عدد المستشارين الإسرائيليين هناك إلى 600 مستشار ، كما أن مجلة ( معرخون العسكرية ) الإسرائيلية قدرت أن مجموع ما قدمته إسرائيل لجيش تحرير الجنوب وصل إلى 500 مليون دولار فيما قامت الولايات المتحدة بتغطية الجانب الأكبر ، وقد راهنت إسرائيل على زعيم التمرد الجنوبي جون جارانج الذي التحق هو ومجموعته في دورات تدريبية عسكرية في إسرائيل ، ووصل التعاون بين المتمردين الجنوبيين وإسرائيل ذروته عندما قدمت إسرائيل لجون جارانج عام 2003 مجموعة من الضباط ذوي الأصل الأثيوبي الأمر الذي مكنه عسكريا من الأستمرار في دوره الانفصالي وأصبح له من القوة أن يقتسم السلطة مع الخرطوم ، ومع ذلك فإن مصرع جون جارانج جاء ليثير أزمة كبرى في السودان تم فيها تبادل التهم حول مسؤولية من قام بإسقاط طائرته ، فيما كانت بعض أصابع الإتهام تشير إلى جهة خارجية لها مصلحة في تزكية النار .
2
لقد كان ديفيد بن جوريون مؤسس إسرائيل الحقيقي أول من تنبه إلى ضرورة تطويق مصر وإضعاف العرب عن طريق استغلال التنوع الإثني والطائفي والمذهبي في المنطقة في وقت كان الكل يفخر بانتمائه العربي ، وتشير الوثائق الإسرائيلية إلى أن ابن جوريون قال في اجتماع لمجلس الوزراء الإسرائيلي 29 مايو 1949 ( إن على إسرائيل أن تحاول العثور على صداقات خاصة أو حتى علاقة مصلحة متبادلة بينها وبين عدد من العناصر المكونة للموزاييك الإنساني في الشرق الأوسط ، وتساءل هل نستطيع إقامة علاقات مع الأكراد في العراق وإيران وتركيا ؟ هل نستطيع إقامة علاقات منظمة مع الموارنة في لبنان ؟ - لا أتحدث عن علاقات مع أفراد هنا وهناك ، ولكن مع كتل دائمة وحاضرة باستمرار ؟- هل نستطيع مع الدروز خصوصا وهناك قسم كبير منهم تحت سلطة الدولة الآن ؟ هل نستطيع مع العلويين في سوريا ؟ ) في هذا الاجتماع لم يرد ذكر السودان ولكن المؤكد أن خطة تطويق مصر كانت تشمل الجار الجنوبي المهم وهو السودان ، وفي الاجتماعات التالية تم تناول السودان بشكل مستفيض ، وتشير الوثائق الإسرائيلية إلى أن ابن جوريون أسس الإنطلاق لفرضية رئيسية أقام عليها الإسرائيليون تعاونهم ودعمهم اللا محدود للأقليات العرقية والدينية في الوطن العربي حيث أصدر أوامره إلى أجهزة الأمن للاتصال بزعامات الأقليات في العراق والسودان وإقامة علاقات مختلفة معها وقد صدر كتاب من مركز دايان لدراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بجامعة تل أبيب تحت عنوان ( الإستخبارات الإسرائيلية في جنوب السودان ) تأليف ضابط الموساد العميد المتقاعد موشي فيرجي ، جاء فيه أن اتصالات الموساد مع جون جارانج بدأت عام 1983 وأن جارانج زار إسرائيل 3 مرات وأن علاقته كانت قوية مع سفير إسرائيل في نيروبي ، وأن إسرائيل دفعت ما جملته 500 مليون دولار لمساعدة المتمردين وأن جزءا من المبلغ كان رشوة للمتمردين لينسفوا معدات حفر قناة جونقلي نكاية في المصريين ، ومقابل تعهد من جارانج أن يفصل الجنوب عن الشمال نكاية في المسلمين والعرب .
3
في مقالي الماضي أوردت بعض تصريحات آفي ريختر وزير الأمن الإسرائيلي حول التدخل في السودان في محاضرة نشرتها الصحف العبرية يوم 10/10 /2008 وقد نشر تقرير الأهرام الأستراتيجي المحاضرة كاملة فيها الكثير من الإشارات وهي توضح للمهتمين كيف تسيطر إسرائيل على المنطقة مما يدل على أنها دولة حقيقية تخطط للمستقبل وليست دولة قائمة على الهامش أو الصدف ، ولو لم تكن كذلك لما صمدت أكثر من 60 عاما .
ومما قاله ريختر إن ‬إسرائيل‮ ‬حين تبلور محددات سياساتها واستراتيجياتها حيال العالم العربي فإنها‮ ‬تنطلق من عملية استجلاء واستشراف للمستقبل وأبعاده وتقييمات تتجاوز المدى الحالي أو المنظور، من هنا كانت هناك تقديرات إسرائيلية منذ بداية استقلال السودان‮ ‬أنه يجب ألا يسمح له - رغم بعده عن‮ إسرائيل ‮- ‬أن يصبح قوة مضافة إلى قوة العالم العربي لأن موارده إن استثمرت في ظل أوضاع مستقرة ستجعل منه قوة يحسب لها ألف حساب‮ ، ‬وفي ضوء هذه التقديرات كان على‮ إسرائيل ‬أو الجهات ذات العلاقة أو الاختصاص أن تتجه إلى هذه الساحة وتعمل على مفاقمة الأزمات وإنتاج أزمات جديدة حتى يكون حاصل هذه الأزمات معضلات يصعب معالجتها فيما بعد‮ ، وقال ان السودان يشكل عمقا استراتيجيا لمصر ‬وقد تجسد هذا المعطى بعد حرب‮‬1967‮ ‬عندما تحول السودان إلى قواعد تدريب وإيواء لسلاح الجو المصري وللقوات البرية‬ فكان لابد أن تعمل‮ ‬إسرائيل‮ ‬على إضعاف السودان وانتزاع قدرته على بناء دولة قوية موحدة رغم أنها تعج بالتعددية الاثنية والطائفية‮ ‬لأن هذا من المنظور الاستراتيجي الإسرائيلي ضرورة من ضرورات دعم وتعظيم الأمن القومي الإسرائيلي‮.‬ وقال وزير الأمن الإسرائيلي إن جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل السابقة كانت قد عبرت عن هذا المنظور عندما قالت ‮ ( ‬إن إضعاف الدول العربية الرئيسية واستنزاف طاقاتها وقدراتها واجب وضرورة من أجل تعظيم قوتنا وإعلاء عناصر المنعة لدينا في إطار المواجهة مع أعدائنا‮. ‬وهذا يحتم علينا استخدام الحديد والنار تارة والدبلوماسية ووسائل الحرب الخفية تارة أخرى‮ ) وكشفت عن أن‮ ‬إسرائيل‮ ‬وعلى خلفية بعدها الجغرافي عن العراق والسودان مضطرة لاستخدام وسائل أخرى لتقويض أوضاع هذين البلدين من الداخل لوجود الفجوات والثغرات في البنية الاجتماعية والسكانية فيهما‮ .
وقد أورد ديختر بعض المعطيات عن وقائع الدور الإسرائيلي في إشعال الصراع في جنوب السودان انطلاقا‮ ‬من مرتكزات قد اقيمت في أثيوبيا وفي أوغندا وكنيا والكونجو ، ‬وأشار الى أن جميع رؤساء الحكومات في‮ ‬إسرائيل‮ ‬من ابن جوريون وليفي اشكول وجولدا مائير وإسحاق رابين ومناحيم بيجن ثم شامير وصولا الى شارون وأولمرت تبنوا هذا الخط الاستراتيجي في التعاطي مع السودان الذي يرتكز‮ (‬على تفجير بؤر وأزمات مزمنة ومستعصية في الجنوب وفي أعقاب ذلك في دارفور‮)‬ .
هذا الخط الاستراتيجي كانت له نتائج ولا تزال أعاقت وأحبطت الجهود لإقامة دولة سودانية متجانسة قوية عسكريا‮ ‬واقتصاديا‮ ‬قادرة على تبوء موقع الصدارة في العالمين العربي والأفريقي‮ ويقول ديختر‮: ‬ان تدخلنا في إنتاج وتصعيد البؤرة الجديدة في دارفور‮ ‬كان حتميا‮ ‬وضروريا ‮ ‬حتى لا يجد السودان المناخ والوقت لتركيز جهوده باتجاه تعظيم قدراته‮ وإن ما أقدمنا عليه من جهود على مدى ثلاثة عقود يجب ألا يتوقف لأن تلك الجهود كانت بمثابة المداخل والمقدمات التي أرست منطلقاتنا الاستراتيجية في‮ ‬أن سودانا ضعيفا ومجزأ وهشا أفضل من سودان قوي وموحد وفاعل‮‬ واشار ديختر الى ان الحركة الإسرائيلية في دارفور لم تعد مقصورة على الجانب الرسمي وعلى نشاط أجهزة معينة ‮ ‬بل ان المجتمع الإسرائيلي بمنظماته المدنية وقواه وحركاته وامتداداتها في الخارج تقوم بواجبها لصالح سكان دارفور‮، ‬وأكد‮ ( ‬نحن متواجدون في دارفور لتأكيد خطنا الاستراتيجي من أن دارفور كجنوب السودان من حقه أن يتمتع بالاستقلال وإدارة شؤونه بنفسه‮‬ ‮ ‬لوضع حد لنظام السيطرة المفروض عليه عنوة من قبل حكومة الخرطوم‮ )- حسب قوله -.‬
وحول التعاون الامريكي الاوروبي الإسرائيلي يقول ديختر‮ ‬إن الدور الأمريكي في دارفور دور مؤثر وفعال ‮ ‬ومن الطبيعي أن يسهم هذا في تفعيل الدور الإسرائيلي وإسناده ،‮ ‬وقد كان من الممكن ان نواجه مصاعب في الوصول إلى دارفور لنمارس دورنا متعدد الأوجه بمفردنا وبمنأى عن الدعم الأمريكي والأوروبي‮.‬
يشير ديختر الى ان الفضل في وضع خطة التدخل الإسرائيلي في دارفور عام 2003،‮ ‬يعود إلى رئيس الوزراء السابق ارييل شارون‮ ‬وأن ذلك أثبت نظرة شارون الثاقبة والمستمدة من فهمه لمعطيات الوضع السوداني خصوصا‮ ‬والوضع في‮ ‬غرب أفريقيا عموما‮ ‬وأن هذه النظرة وجدت تعبيرا لها في كلمة قاطعة ألقاها شارون خلال اجتماع للحكومة في عام 2003 (‬حان الوقت للتدخل في ‬غرب السودان وبنفس الآلية والوسائل وبنفس أهداف تدخلنا في جنوب السودان‮).‬
وقال ديختر‮ إن استراتيجيتنا التي ترجمت على الأرض في جنوب السودان سابقا‮ ‬وفي‮ ‬غربه حاليا،‮ ‬استطاعت أن تغير مجرى الأوضاع في السودان نحو التأزم والتدهور والانقسام‮. ‬وأصبح من المتعذر الآن الحديث عن تحول السودان إلى دولة إقليمية كبرى وقوة داعمة للدول العربية التي يطلق عليها‮ دول المواجهة مع إسرائيل وأنه لابد من التذكير مرة أخرى بأن قدرا مهما وكبيرا من أهداف‮ إسرائيل‮ ‬في السودان ‮ ‬قد تحقق على الأقل في الجنوب الذي يوشك ان ينفصل‮ ‬وهذه الأهداف تكتسب الآن فرصة التحقق في دارفور ‬وان السودان في ظل أوضاعه المتردية والصراعات المحتدمة في جنوبه وغربه وحتى في شرقه‮ ‬غير قادر على التأثير بعمق في بيئته العربية والأفريقية‮ ‬لأنه مشتبك وعالق داخليا في صراعات ستنتهي إن عاجلا‮ ‬أو آجلا ‬بتقسيمه إلى عدة كيانات ودول وأن المطروح الآن يتعلق فقط بالمدى الزمني للمرحلة الحالية‮: ‬إلى متى؟
4
يرى البعض – ولست منهم - أن على الرئيس عمر حسن أحمد البشير أن يسلم نفسه حتى يجنب السودان ويلات التفتيت والتقسيم والحروب ، ولكن على ضوء ما تقدم من المعطيات فإن الرئيس البشير سواء سلم نفسه أو لم يسلم نفسه فإن مخطط تفتيت وتقسيم السودان واضح وسيجري تنفيذه ، وعلى العرب وبالذات مصر أن ينتبهوا إلى ذلك لأن السودان ليس إلا حلقة من سلسلة طويلة بدأت بالعراق ويعلم الله ستنتهي بمن طالما أن العرب بهذا الضعف !
منشورة في جريدة الوطن العمانية في 23 مارس 2009م

No comments:

Popular Posts

Followers

My Travel Map

تأخير الصلاة